إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن للطاعةِ من البركةِ ما يبقى حتى بعدَ موتِ صاحِبِها. قال سبحانه: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9].
وقال سبحانه في قصة موسى مع الْخَضِر: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ [الكهف: 82].
فَحَفِظ الله الأبناء بصلاح الآباء، وذلك من بركة الطاعة.
وإن للمعصية ضررًا وشؤمًا يلحقُ صاحبَها ولو بعد الموت، قال سبحانه عن آل فرعون: ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45، 46].
وقال جل جلاله عن بني إسرائيل: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا… ﴾ [الأعراف: 167، 168].
قال ابن القيم – رحمه الله –: وما الذي أخرجَ الأبوينِ من الجنّةِ دارَ النَّعيمِ والبهجَةِ والسرور إلى دارِ الآلام والأحزانِ والمصائب؟
وما الذي أخرجَ إبليسَ من ملكوتِ السماءِ وطردَه ولَعَنَه، ومسخَ ظاهرَه وباطنَه، فَجَعَلَ صورتَهُ أقبحَ صورةٍ وأشنَعها، وباطِنَه أقبحَ من صورتِه وأشْنَع، وبُدِّلَ بالقربِ بُعدًا، وبالرحمةِ لَعْنَةً، وبالجمالِ قُبْحًَا، وبالجنة نارًا تلظى، وبالإيمان كفرا، وبموالاةِ الوليِّ الحميدِ أعظمَ عداوةٍ ومُشاقّةٍ، وبِزَجَلِ التسبيحِ والتقديسِ والتهليلِ زَجَلَ الكفرِ والشركِ والكَذِبِ والزورِ والفحش، وبلباسِ الإيمانِ لباسَ الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ، فهانَ على الله غايةَ الهوانِ، وسَقَطَ من عينه غايةَ السقوطِ وحَلَّ عليه غضبُ الربِّ تعالى فأهْواهُ، ومَقَتَهُ أكبرَ المقتِ فأرداهُ، فصار قَوّادًا لكل فاسقٍ ومجرم. رضي لنفسه بالقيادةِ بعد تلك العبادةِ والسيادةِ! فَعِيَاذًا بك اللهمَّ من مخالفةِ أمرِك، وارتكابِ نهيِك.
وماالذي أغرقَ أهلَ الأرضِ كلَّهم حتى علا الماءُ فوقَ رؤوسِ الجبال؟ وما الذي سلطَ الريحَ على قومِ عادٍ حتى ألقتْهُم موتى على وجهِ الأرضِ، كأنهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ؟ ودَمَّرَتْ ما مَرَّتْ عليه مِنْ ديارِهم وحروثِهم وزروعِهم ودوابِّهم، حتى صاروا عبرةً للأممِ إلى يومِ القيامة.
وما الذي أرسلَ على قومِ ثمودَ الصيحةَ حتى قَطّعَتْ قلوبَهم في أجوافِهم، وماتوا عن آخرهم. وما الذي رفعَ قرى اللوطيةِ حتى سَمِعَتْ الملائكةُ نبيحَ كلابِهم، ثم قَلَبَهَا عليهم فجعل عاليَها سافِلَها فأهلكَم جميعا، ثم أتْبَعَهُم حجارةً من السماءِ أمطرَها عليهم؟ فَجَمَعَ عليهم مِن العقوبةِ ما لم يَجْمَعْهُ على أُمّةٍ غيرِهم، ولإخوانهم أمثالُها، وما هي من الظالمين ببعيد.
وما الذي أرسلَ على قومِ شُعيبٍ سحابَ العذابِ كالظُّلَلِ، فلما صار فوقَ رؤوسهم أمطرَ عليهم نارًا تلظى؟
وما الذي أغرقَ فرعونَ وقومَه في البحر، ثم نَقَلَ أرواحَهم إلى جهنمَ؛ فالأجسادُ للغرقِ، والأرواحِ للحَرَقِ؟
وما الذي خسفَ بقارونَ وداره ومالِهِ وأهلِه؟
وما الذي أهلكَ القرونَ من بعد نوحٍ بأنواعِ العقوباتِ ودمَّرها تدميرا؟
وما الذي بعثَ على بني إسرائيل قومًا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خلالَ الديارِ، وقَتَّلُوا الرجال، وسَبَوا الذراريَ والنساء، وأحرقوا الديارَ ونهبوا الأموالَ، ثم بعثهم عليهم مرةً ثانيةً فأهْلَكُوا ما قَدَرُوا عليه، وتَبَّرُوا ما علو تتبيرا؟
إنها الذنوبُ المهلكات. قال سبحانه: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 6].
وقال جل جلاله: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ﴾ [غافر: 21].
وصدق الله: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].
إن الذّنوب تُورِث الذِّلّة والمهانة.
روى الإمام أحمدُ في الزُّهد وغيرُه عن جُبيرِ بنِ نُفيْر قال: لما فُتِحَتْ قبرص فُرِّقَ بين أهلِها فبكى بعضُهم إلى بعض، ورأيتُ أبا الدرداءِ جالسًا وحدَه يبكي، فقلتُ: يا أبا الدرداء! ما يبكيكَ في يومٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه؟ قال: ويحَك يا جبير؛ ما أهونَ الخلقِ على اللهِ إذا أضاعوا أمرَه. بينا هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ لهم الملكُ، تركوا أمرَ اللهِ فَصَارُوا إلى ما ترى إنه ليس هناك أحدٌ بينه وبين الله نَسب، ولذا قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه. رواه مسلم.
فَعَمَلُ المسلم هو حسبُه ونسبُه وهو فخره وشرفُه في الدنيا والآخرة.
كم رفَعَ العِلم أقوامًا، وكم خفض الجهل آخرين.
كان عطاء ابن أبي رباح عُبيدًا أسودًا لامرأة من مكة وكان أنفه كأنه باقلاء، فجاءه سليمان بن عبدالملك وهو أمير المؤمنين جاء هو وابناه إلى عطاء، فجلسوا إليه وهو يصلي فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حوّل قفاه إليهم ثم قال سليمان لابنيه: قوما؛ فقاما، فقال: يا بَني لاتَنِيَا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلّنا بين يدي هذا العبد الأسود.
وكان محمد بن عبد الرحمن الأوقص عنقُه داخلٌ في بدنه، وكان منكباه خارجين كأنهما زُجّان، فقالت أمه: يا بني لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوكَ منه المسخورَ به، فعليك بطلب العلم؛ فإنه يرفعك، فولى قضاء مكة عشرين سنة، وكان الخصم إذا جلس اليه بين يديه يرعد حتى يقوم. ومرت به امرأة وهو يقول: اللهم اعتق رقبتي من النار، فقالت له: يا ابن أخي وأي رقبة لك!
فالعلم الذي يُثمر تقوى الله والبعد عن معصيته هو العلم الحقيقي، فإن مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف.
إنه لو لم يكن من شؤم المعصيةِ إلا أن صاحبَها وإن مضى في الغابرين، وذهَبَ في الذّاهبين لا يزالُ يُكتبُ عليه إثمُها، ويجري عليه عذابُها، إذا كانت متعدية.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: « لا تُقتلُ نفسٌ ظُلما إلا كان على ابنِ آدمَ الأولِ كفلٌ مِنْ دمها لأنه أولُ من سَنَّ القتل » رواه البخاري ومسلم.
ومثله آثام المُغنّين والمُغنّيات، وسائر أهل الفجور الذين لا تزال معاصيهم بين الناس عبر الأشرطة المرئية والمسموعة، فإنه كلما استمعها مُستَمِع أو شاهدها مُشاهِد كُتِبَ عليهم مثل آثام مَن استمع أو شاهَد، ويتوب الله على مَن تاب.
يدلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده مِن غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده مِن غير أن ينقص من أوزارهم شيء » رواه مسلم.
قال ابن القيم: ومن آثار الذنوب والمعاصي إنها تحدث في الارض أنواعا من الفساد في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، فالمراد بالفساد والنقص والشر والالآم التي يُحدثها الله فى الأرض بمعاصي العباد، فكل ما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة، كما قال بعض السلف:كل ما أحدَثْتُم ذنبا أحدَث الله لكم من سلطانه عقوبة، والظاهر والله أعلم أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ﴾ [الروم: 41] فهذا حالنا، وإنما إذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا، فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة.
ومن تأثير معاصي الله في الأرض ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم إلا وهم باكُون، ومَن شُرب مياهِهم، ومن الاستسقاء من أبيارهم لتأثير شؤم المعصية في الماء، وكذلك شؤم تأثير الذنوب فى نقص الثمار، وما ترى به من الآفات، وقد ذكر الإمام أحمد فى مسنده فى ضمن حديث قال: وُجِدَتْ في خزائن بعض بني أمية حنطةٌ الحبة بقدر نواة التمرة، وهي في صرةٍ مكتوب عليها: كان هذا يَنْبُتْ في زمن من العدل.
وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب.اه.
وإن مِنْ شؤمِ المعصية على صاحِبِها ما يلي:
1- أن المعصيةَ تُورِثُ صاحِبَها وحشةً في القلب، وتكونُ سببًا في حِرْمانِ العلم.
وذلك أن القلبَ بيتُ الرب – كما يقول ابن القيم – فإذا عُمِرَ بغير ذكر مولاه أظلم، وبِقَدْر إعراض العبد عن ذِكْرِ الله يكون لديه من الضّنْكِ وضيق الصّدر وانقباض النفس، وإن انطَلَقَ صاحبها في الحياة فهو غير سعيد، لأن التّقيَّ هو السعيد، وأما العلم فهو نورٌ، ونورُ الله لا يؤتاه عاصي – كما قال الإمام الشافعي –.
والمعصية سبب في ضيق الصدر، وقَلَق النفس، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124].
وهذا بخلاف الطاعة التي تشرح الصدر، وتطمئن معها النفس، قال جل جلاله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
2- أنّ صاحبَ المعصيةِ تلعنُه حتى البهائم، بخلاف صاحب الطاعة.
قال مجاهدٌ في تفسير قولِه تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159] قال: إن البهائمَ تلعنُ عصاةَ بنى آدم إذا أشتدت السنةُ وأمسكَ المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن ادم.
أما صاحب الطاعة فقال فيه صلى الله عليه وسلم: إن اللهَ وملائكتَه وأهلَ السماوات والأرَضين حتى النملةَ في جحرها وحتى الحوتَ ليُصَلُّون على معلمِ الناس الخير. رواه الترمذي وابن ماجه، وهو حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم لما مُرَّ عليه بجنازة: مستريح ومستراح منه. قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب. رواه البخاري ومسلم.
3- حِرْمانُ الطاعة، كما قال ابن القيم:
حُبُّ الكتابِ وحبُّ ألحانِ الغناء في قلبِ عبدٍ ليس يجتمعان.
وذلك أن الطاعة قُربةٌ إلى الملك الديان، فلا يجد عبدٌ لذة الطاعة إلا بابتعاده عن المعصية، ولذا قال سبحانه في المنافقين: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ [التوبة: 46].
قال الفضيل: إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك.
وقال شابٌ للحسن البصري: أعياني قيام الليل، فقال: قيدتك خطاياك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الاخرة.
4- أن المعاصي سببٌ لِهوانِ العبدِ على ربِّه، فلا عِزّةَ إلا في طاعةِ العزيزِ سبحانه.
قال الحسنُ البصري عن العصاة: هانُوا عليه فَعَصَوه، ولو عزُّوا عليه لَعَصَمَهُم.
وقال عبدُ الله بن المبارك:
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ
وقد يورثُ الذُّلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ
وخيرٌ لنفسِك عِصيانُها
قال الحسن بن صالح: العملُ بالحسنة قوةٌ في البدن، ونورٌ في القلب، وضوءٌ في البصر، والعملُ بالسيئة وهنٌ في البدن، وظلمةٌ في القلب، وعمىً في البصر.
وقال إبراهيم بنُ ادهم: إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسَعَةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القبر والقلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبُغْضَةً في قلوب الخلق.
5- أن المعصية إذا أحاطتْ بصاحبها أدخَلَتْهُ النار، قال سبحانه: ﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 81].
قال القرطبي: السيئة الشرك. قال ابن جريج: قلت لعطاء: ﴿ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ قال: الشرك، وتلا: ﴿ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ﴾ [النمل: 90] وكذا قال الحسن وقتادة، قالا: والخطيئة الكبيرة.
وإن الذنوب إذا اجتَمَعتْ أهلكتْ صاحبها، كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحقَّرات الذنوب،فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فَحَضَرصنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجئ بالعود حتى جمعوا سوادًا؛ فأجَّجوا نارًا وأنضَجَوا ما قَذَفوا فيها. رواه الإمام أحمد وغيره.
6- أن الذنوب تَخُونُ صاحبَها في أحلك الظروف، وأصعب المواطن، خاصة عند الموت.
قال ابن القيم: ومن عقوباتها – أي المعاصي – أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه … وثَمّ أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمرّ، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال الى الله تعالى، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة، كما شاهَدَ الناس كثيرا من المحتضَرين أصابهم ذلك، حتى قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فقال: آه آه. لا أستطيع أن أقولها… وقيل لآخر:قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء… وقال: وما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ركبتها ثم قَضَى، ولم يَقُلْها، وقيل لآخر ذلك، فقال: وما يُغْنِي عَنِّي، وما أعلم أني صليت لله تعالى صلاة، ثم قَضَى ولم يقلها، وقيل لآخر ذلك فقال: هو كافر بما تقول، وقَضَى، وقيل لآخر ذلك، فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يُمسِك عنها. اهـ.
وهل تُهزمُ الجيوش، وتَذِلُّ الأمم إلا بالذنوب والمعاصي.
وهل أصاب الصحابة ما أصابهم يوم أحد وحُنين إلا بشؤم المعصية.
﴿ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النمل: 90].
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25].
فهؤلاء الأخيار الأبرار أصابهم ما أصابهم بذنبٍ واحدٍ، فما بال من جَمَع المئين.
يا ناظرًا يرنو بعينيّ راقدِ
ومُشاهِدًا للأمر غيرُ مشاهِدِ
تَصِلِ الذنوب إلى الذنوب وترتجي
درج الجنان ونيل فوز العابد
أنسيتَ ربك حين أخرج آدما
منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ
7- أن الذنوب تُغطّي القلب، حتى تنقلب عليه الحقائق، فلا يعرف معروفًا ولا يُنكر مُنكَرًا.
قال صلى الله عليه وسلم: تعرض الفتن على القلوب كالحصيرعودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر مُنكَرًا إلا ما أشرب من هواه. رواه مسلم.
وضدُّها التقوى؛ فَبِها تُكشف وجوه الحقائق، ويُميّز المسلم بين الحقّ والباطل، قال سبحانه ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 29].
أن الذنوب تكون بمثابة الغطاء على القلب، فلا يذكر الله عز وجل، ولا يتذكّر الدار الآخِرة، فيُحجب قلبُه في الدنيا عن ربِّه، ثم يَحجِبْه ربُّه جل جلاله عن رؤية وجهه الكريم ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [المطففين: 14 – 17].
8- أن الذنوب والمعاصي سبب في زوال النِّعم.
قال سبحانه وبحمده: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
قال الإمام الشافعي:
إذا كنت في نعمةٍ فارعَها
فإن المعاصي تُزيلُ النّعم
وحُطها بطاعةِ ربِّ العباد
فرَبُّ العبادِ سريعُ النِّقَم
9- ومن شؤم المعصية أنها تكون سببًا في عذاب القبر، فقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: أمَا إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى؛ أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله. رواه البخاري ومسلم.
ومِنْ عقوبات المعاصي في الآخِرة:
1- عذاب المتكبّرين، قال صلى الله عليه وسلم: يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذّل من كل مكان، فَيُساقُون إلى سِجن في جهنم يُسمى بولُس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال. رواه أحمد والترمذي، وهو صحيح.
2- إعراض الله وحجابه عن العاصِين، فيا حسرة على العباد عندما يُعرِض عنهم رب العِزّة سبحانه.
قال صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى. رواه أحمد والنسائي.
3- أن أهل المعاصي والكبائر خاصة يُعتبرون من أهل الجرائم، فيُحشرون يوم القيامة سُود الوجوه.
قال عز وجل: ﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴾ [طه: 102].
قال البغوي: والزُّرقة هي الخضرة في سواد العين، فيُحشرون زرق العيون سود الوجوه، وقيل: زُرقا: أي عميا، وقيل: عِطاشا.
ويوم القيامة تسودّ وجوه العُصاة. قال تبارك وتعالى: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [آل عمران: 106].
هذا غيضٌ من فيض، ونزرٌ يسير مِن آثار الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع، في الدنيا والآخِرة، لتكن على بصيرة قبل أن تُقدم على معصية الله، وليِّ نعمتِك، ومانحَك الصحة والعافية، ومعافيك في بدنك، ومؤمّنك في وطنِك، ومسبغ عليك نِعمَه ظاهرة وباطنه.
فيا عجبًا كيف يُعصى الإله *** أ م كيف يجحده جاحِدُ
أُخي:
اشتر نفسك اليومَ فإن السوقَ قائمةٌ، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائعِ يومٌ لا تَصِلِي فيها إلى قليل ولا كثير.
ذلك يوم التغابن: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 27].
إذا أنت لم ترحل بزاد من التُّقى
وأبصرتَ يومَ الحشرِ مَنْ قد تزوّدا
نَدِمْتَ على أن لا تكونَ كمثلِه
وأنك لم تُرْصِدْ كما كان أرصدا
قام سوق الجنة والنار، وكلٌّ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو مُوبِقُها. فاختاري لنفسك.
وقبل الختام أود توضيح أمرٍ، والإجابة على سؤال قد يطرأ، وهو سؤال يرد أحيانًا: لماذا يتنعّم الكفّار في هذه الحياة الدنيا، ولا تُصيبُهم هذه العوبات؟
وجوابًا عليه أقول:
أولًا: لا يخفى على كلِّ ذي لبٍّ ما يُصيبَهم من كوارث وزلازل وأعاصير وفيضانات وغيرها مما هو مُشاهَدٌ وواضح.
ثانيًا: أن الكفار عُجِّلتْ لهم طيّباتهم في هذه الحياة، قال الحقّ تبارك وتعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾ [الأحقاف: 20].
وصحّ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر. رواه مسلم.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الكفار يعيشون جنّتهم في هذه الحياة الدنيا، وما يُصيبُهم من أمراض وكوارث وغيرها إنما هي بعض عقوباتهم، بخلاف المسلم فإن ما يُصيبه في هذه الحياة الدنيا إنما هو كفّارة لذنوبه وتمحيصٌ له.
وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يُعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسنات ماعمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها. رواه مسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32].
والله سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال حبة من خردل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40].
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [يونس: 44].
وما يُصيب الناس من مصائب وكوارث وأمراض إنما هو بما كسبتْ أيديهم، وهو مؤاخذةٌ لهم ببعض ما كسبوا، قال سبحانه: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].