تهل علينا الخيرات بحلول الأشهر المباركة، فأيام قليلة وينتهي شهر شعبان الفضيل ليهل علينا شهر رمضان الكريم، حاملاً المسك والطيب والراحة والسكون، فاللهم بلغنا رمضان وأجعلنا فيه من المقبولين، نقدم لكم من خلال موقع ويكي العربي موضوعات إسلامية تهم كل مسلم حول العالم.
حديث القرآن عن الوالدين
حديث القرآن عن الوالدين يكاد يقطر رقةً وعطفًا، ويفيض نصحًا ولطفًا، يطرق الموضوع من جميع جوانبه، ويسير بركب البشرية ليوصلها شاطئ الأمان، بعيدًا عن أمواج المحيطات، وعوائق الطرقات التي طالما غرِق السابحون في لُججها، وتاه العاقون في ظلمها.
فيتحدث القرآن عن الإباء والأمهات، ويبشِّر بالأبناء والأحفاد والبنات، يتحدث عن قوة الإباء وضعفهم، ونشاطهم وعجزهم، وإيمانهم وكفرهم، يتحدث عن لوعة الفراق، وحرارة اللقاء، أب يتلوع على فقْد ابنه، وابن يتحسر من ضلال أبيه، وأخت تستطلع أخبار رضيع، من قاتلٍ يذبحهم بشكلٍ وضيع، يتحدث عن أب يُلقى ابنه في بئر، وأم تطرح ابنها في يَمٍّ، وأب يتل ابنه للجبين، ليَذبحه بسكين!
تجد بين صفحاته غيرةً تعصف بالإخوة؛ لأنه الأقرب لقلب الأب! ويحهم، ما يفعل الوالدان وقد ازدحم على باب قلوبهم الطارقون، والمورد العذب كثيرُ الزحام، وأين في الوجود أعذب من قلب أم، أو الطف من حانية أب! ثم تحسب ألحاظهم وألفاظهم، ويدقِّق في سحناتهم وأنظارهم، لتلتقط عليهم بعدها وتقيد، ثم بعد سنيين عجاف، تشرق شمس الحقيقة ويستغيثون: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 97]، فلا يتردد قلب الأب حينها: ﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ [يوسف: 98]، وَيْحَكُمْ أيها الأبناء، لا تجرحوا قلب من يطوي ألم السنين في لحظة!
كان سعيد بن المسيب يقول: إني لأصلي فأذكر ولدي، فأزيد في صلاتي؛ لأنه يقرأ: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82]، وهناك سورة كاملة سميت باسم أب، جلس مع ولده ليسبر تراكم السنين، ثم يقطر عليه من خلاصتها، فيخلد القرآن أبًا جلس يعظ ابنه، في رسالة للجلوس مع الأبناء: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ﴾ [لقمان: 13]، وهناك أب يخطب لابنته القوي الأمين: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ﴾ [القصص: 27]، ورسول يأمر أهله: ﴿ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ﴾ [مريم: 31]، وابن يرث العلم والنبوة من أبيه، ونبي في ساعة الاحتضار يتأكد من رسوخ ما بناه: ﴿ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ﴾ [البقرة: 133]، ورؤيا تقص لأب؛ لأنه كهف الهموم وبث الأسرار: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا ﴾ [يوسف: 4]، وهناك تنبيه على خطورة الانجرار والتنازلات، فكم مِن أرحام قُطعت بسبب زوجة أو أبناء! ومعاص استُسهلت بسبب دموع صبي، وتنازل عن مبدأ بسبب سندان يطرق آناء الليل وأطراف النهار!
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن: 14]، ونبي يدعو ابنه الكافر للنجاة، وأب يدعوه ابنه النبي للإيمان، وهناك والدان ﴿ يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ [الأحقاف: 17].
أب كافر ولده نبي (إبراهيم)، ونبي ولده كافر (نوح)، ونبي والده وأجداده أنبياء (يوسف)، ونبي بلا أب، وفي أصعب الحالات نبي يموت أبواه وهو صغير، فيكفله جده الذي لا يلبث أن يموت، ثم يكفله عمه العجوز ليضمه مع أسرته الكبيرة مع قلة ذات اليد، ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6].
فمن فقَد والديه ولم يُمتَّع بهما، فله أسوة بنبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي فقد والديه مبكرًا وهما على غير دين الإسلام، ما أشد مرارة الفقد مع اليتم!
ومن تمتَّع بأحد منهما ثم ذاق مرارة الفقد، فليأتَسِ بأبينا إبراهيم عليه السلام الذي مات والده مشركًا مع حرصه على إسلامه وشفقته عليه، ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75].
ومن ابتُلي بهمهم وغيرتهم، وما يحدث بينهم، فليتذكر نبي الله يعقوب عليه السلام الذي ﴿ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 84].
ومن ابتُلي في ولده، فليتذكر بلاء إبراهيم عليه السلام حين أُمِر بذبح ولده، ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ [الصافات: 106].
ومَن مات ولده أمام عينيه بمرض أو حادث أو مصيبة، فليتذكر نبي الله نوح عليه السلام، وابنه يغرق أمام سمعه وبصره.
ومن أنعَم الله عليه بوجودهما وطاعتهما، فليشكر كما شكر نبي الله يوسف، ﴿ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 38].
إنها نماذج فيها سلوةٌ للمحزون، وجبرٌ للمنكسرين، وبلسم للجراج النازفة من ألم الفقد والتياعِ الفؤاد.
يذكر القرآن الروع من فجأة البشارة لزوجين رُزقا على كبرٍ، واستنكار فتاة بشِّرت بولد من غير أب، في رسالة لكل محروم من الذرية، ألا يأس مهما تطاولت السنين كزكريا، ومهما كانت الموانع والعقبات كمريم؛ إذ يعتني القرآن بتفاصيل زوج بشِّر بعد أن اشتعل رأسه شيبًا وهو يتعجب: ﴿ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 8]، ليرسم الطريق للذين لم يرزقوا بعدُ، بأن اليأس لا مكان له، فيلزم باب: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89].
أب يُلقَى ابنُه في بئر مظلم، فيبكي عليه حتى ﴿ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 84]، وأم تُلقي ابنها في لُجة اليم، فأصبح فؤادها فارغًا، استسلمت وفوَّضت أمرها لربها، فكان من أولي العزم من الرسل، وأصبح الأول عزيزًا لمصر، ما ذهبت دموع الأب والأم هباءً، وما كان للوعة الفراق ولا سهر الليل ولا هم البين، ولا ظلماء العين بقاء.
يكرر القرآن حرص إبراهيم على نجاة أبيه، بكلمات لم تمنعها رقتُها وعذوبتُها من أن ينجرف فيبذل شيئًا من دينه ثمنًا لهداية أبيه، بل هي البراءة التي لا يشوبها تمييعٌ أو تلبيس، والوضوح الذي لا يكدِّره غبشٌ أو تدليس، إنها حقيقة صارخة، تتهاوى أمامها صروحُ ما بناه البشر من موانع وسدود: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ… ﴾ [التوبة: 24]، فأحسن الله عاقبته: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]، فحرصك وكلماتك، وحُسن أسلوبك وصدقك، وإخلاصك وصبرك مع أبنائك ووالديك، له أحسن العاقبة، فلا تستعجل.
أكثر ما يلفت الانتباه في موضوع الوالدين، الأمر بالإحسان لهما؛ إذ يتكرر في القرآن كثيرًا، لترسيخ هذه القاعدة في وعي كل مسلم، وتكون الأساس في التعامل مع كل أب وأم، حتى يأتي الإحسان لهما في درجة مباشره بعد عبادته، ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الأنعام: 151]، فنجد القرآن يوصي بالإحسان للوالدين، والإحسان هو أقصى درجات البر والتلطف في المعاملة، ثم ينتقل بك إلى أدنى درجاته، وهو يصور الوالدين وهما في أسوأ حالاتهم، ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [لقمان: 15]، ومع هذا فالابن مأمور ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]، وفي هذا تحديد للإطار العام في معاملة الوالدين التي لا يسمح بالخروج منها ولا تجاوزها، أما العقوق والعصيان والمعاندة، فلا مكان له البتة، بل هو التجبر والعصيان: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم: 14]، والتجبر والشقاء ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 32].
كما يعتني القرآن بتفاصيل التعامل مع الوالدين، ويعلِّمنا كيفية خطابهم، واختيار ألينِ الألفاظ وأرقِّها، ووضع لنا مثالًا تخفق القلوب عند قراءته، فكيف بسماعه! في تلك التي خاطب بها نبي الله إبراهيم أباه في سورة مريم: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42]، كلمات تكاد تقطر من رقتها، والعجب أنه كان يخاطب والده الكافر بهذه الكلمات، فكيف لو كان مسلمًا! فكيف لو كان شيخًا كبيرًا! فما عذر الأبناء في مخاطبة والديهم بأغلظ الألفاظ، وقد خبؤوا ألينَها وأطرفها لغيرهم! وقد نهى عن ألفاظ قد يستسهلها البعض، للتنبيه على ما هو أعلى منها: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]، وقرن مع أدب اللغة أدبَ الجسد: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [الإسراء: 24]، ثم يختم حديثه بالدعاء: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]، فأشار إلى حال قوتهما وما قدماه للابن في حالة عجزه وضَعفه، ليرد بعضًا من الجميل في حال قوته وضعفهما.
إنها لوحة الإرشاد للبر، رسمت خطوطه ومعالمه، وحدت حدوده ومفاصله، فلو تخيَّلنا برَّ الأبناء بوالديهم كما في هذه الآية؛ إذ جمعوا بين رقة القول ولين الجسد الذي يختم بالدعاء، كيف ستكون سعادة الآباء وفرحهم، وفوز الأبناء ببرهم ورضا ربهم.
ومن القضايا الحاضرة والواضحة جدًّا: قضية الدعاء من الوالدين أو لهما، فما زال إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه ويدعو له، حتى نُهي عن ذلك: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ [التوبة: 114]، ثم أصبح يدعو لأبنائه: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، ونبي الله نوح يدعو لوالديه: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].
وجاء الدعاء بصلاح الذرية قبل ولادتهم: ﴿ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]، ﴿ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100]، وفي كل وقت: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74]، والاستغفار لهم: ﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ [يوسف: 98].
• وتأمل الرشد في دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 40، 41]، حين دعا لنفسه ولوالديه وأبنائه والمسلمين، وكذلك دعاء نوح عليه السلام: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [نوح: 28]، وقارن هذا مع ما ذكره الله في سورة الأحقاف: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
إنه التوازن الذي يبلغ ذِروته في سنِّ الرشد، فمن بلغ سن الأربعين ولم يلمس هذا التوازن في نفسه، فليراجع حساباته.
وأخيرًا، فإن اللقاء لا ينتهي هنا، وإنما يبدأ هناك، فما أجمل حين تجتمع بوالديك في جنة عدن، ذاك النعيم الذي استشعرته الملائكة في دعائها: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [غافر: 8]، إنه الاجتماع الذي لا تفرُّق بعده، ولا حزن فيه، ولا حسد ولا بغضاء بين جهاته ونواحيه، بل تأمل هذا الفضل من الله على الإباء والأبناء في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ [الطور: 21]، قال ابن كثير: “يخبر الله عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه – أن المؤمنين إذا اتَّبعتهم ذرياتهم في الايمان، يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم؛ لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه برفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته”؛ ا.هـ.
إنه العزاء والتثبيت وترويح القلوب على طريقة القرآن، إنه الأمل الذي تقتات عليه القلوب، لتطفأ وجعها الغائر، والوقود الذي يلهب أملها الفاتر، حين تتذكَّر تجاعيد وجوههم، ونبرة أصواتهم وضحكاتهم، وأمكنة جلوسهم ومنامهم، وسجادة صلواتهم ودعائهم، إنها لحظات الدموع والذكريات التي لا يداويها إلا إيمان بتلاق لا فراق بعده، وفرح لا حزن معه، وسرور لا نكد فيه.
يا ألله! كم من ضمة أم وعناق أب، تنتظركم في الجنة أيها المحرومون! ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23، 24]، نسأل الله الكريم من فضله.