الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فقد قال تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32].
قال البغوي رحمه الله: “ليستخدم بعضهم بعضًا، فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش، هذا بماله، وهذا بأعماله، فليلتئم قوام أمر العالم”[1].
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
قال ابن تيمية رحمه الله: “حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا، لا يتم إلا بمعاونة بعضهم لبعض في الأقوال أخبارها وغير أخبارها، وفي الأعمال أيضًا”[2].
فلا يمكن للإنسان أن يواجه أعباء الحياة وحدَه، بل يحتاج لغيره، ولا تستقيم شؤون حياة البشر ومصالحهم إلا بالتعاون فيما بينهم؛ لذا يحرص العقلاء في كل أنحاء المعمورة على تعلم فنون التعامل مع الناس، واكتساب المهارة في التعامل مع أنواع الشخصيات، من أجل بناء علاقات ناجحة، والعيش بسلام ومحبة في البيئات الاجتماعية المتعددة، حتى أصبح التعامل مع الناس علمًا له فنون وطرق وأساليب متنوعة.
ووُضِعت له قواعدُ خاصة بحسب أنواع الشخصيات المختلفة، وكذلك قواعد عامة للتعامل مع الإنسان مهما كانت شخصيته وطبائعه، ومعتقده وفكره وميوله؛ قال صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب))[3].
ومن القواعد العظيمة الجليلة التي قررها الإسلام قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، ففي الآية قاعدة عامة في تعامل المسلم مع الناس، وفي الوصول لأعلى درجات الرقي والكمال في تعامل الناس مع بعضهم البعض؛ قال ابن القيم رحمه الله: “فالبر كلمة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد”[4].
قال ابن باز رحمه الله: “التعاون على البر والتقوى هو تعاون على تحقيق ما أمر الله به ورسوله قولًا وعملًا وعقيدة، وعلى ترك ما حرَّم الله ورسوله قولًا وعملًا وعقيدة”[5].
والإسلام بين أصول التعامل مع الناس، وجعلها من الأمور التي يجب أن يتعلَّمها المسلم وَفق ما جاء في الكتاب والسنة، راجيًا بذلك رضا ربه سبحانه وتعالى، ولكيلا يقع في الإثم والعدوان، فينال بذلك الأجر من الله عز وجل، وليس من أجل أن يستحوذ على شيء من حظوظ الدنيا.
المسلم مأمور بأن يعامل الناس بخلق حسن، وألا يؤذي أحدًا بقول أو فعل، فالأخلاق أحد الأصول الأربعة التي يقوم عليها الإسلام وهي: الإيمان، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق.
فحسن الخلق من أعظم خصال البر؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرِهت أن يطلع عليه الناس))[6].
فتقوى الله فيها حسن المعاملة مع الله عز وجل، وذلك بأن يلتزم المسلم بأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وينتهي عما نُهي عنه، وحُسن الخلق فيه حسن المعاملة مع الخلق، وهاتان الخصلتان من أسباب نيل رحمة الله عز وجل ودخول الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق))[7].
والتعاون على البر والتقوى يختلف بحسب الحال والشخص:
فقد يكون التعاون من الأمور الواجبة؛ مثل: إنقاذ المعصوم من الهلكة، وقد يكون من الأمور المستحبة؛ مثل: التعاون في أوجه البر والإحسان غير الواجبة على المسلم، سواء تجاه الإنسان أو الحيوان، وقد يكون من الأمور المباحة؛ مثل: التعاون في سائر أمور الحياة المباحة، وقد يكون من الأمور المكروه؛ مثل: التعاون على بعض التقاليد والعادات التي لا تصل لحد المحرم، مع أن الأفضل والأكمل للمسلم أن يتجنب التعاون فيما هو مكروه.
ونهى الإسلام عن التعاون في الأمور المحرمة؛ لأن كل محظور في الإسلام فيه مفسدة خالصة أو مفسدة راجحة، ويأثم المسلم أن شارك أو تعاون بأي وسيلة كانت؛ قال ابن القيم رحمه الله: “الإثم كلمة جامعة للشر والعيوب التي يذم بها العبد”[8].
وقال أيضًا رحمه الله: “الإثم ما كان حرامًا لجنسه، والعدوان ما حُرم الزيادة في قدره، وتعدَّى ما أباح الله منه، فالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، ونحوها إثم، ونكاح الخامسة، واستيفاء المَجنيِّ عليه أكثر من حقه، ونحوه عدوان”[9].
فكل خير من قول أو فعلٍ، فهو يدخل في البر، وكل منكر من قول أو فعل، فإنه يُجتنب بالتقوى، فنحن مأمورون بالتعاون على البر والتقوى، ونُهينا عن التعاون على الإثم والعدوان، وبهذا ينال الإنسان سعادته قبل إسعاد الأخرين؛ قال الماوردي رحمه الله: “ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر، وقرنه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس، فقد تمت سعادته، وعمت نعمته”[10].
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تفسير البغوي.
[2] الفتاوى الكبرى.
[3] السلسلة الصحيحة 1630.
[4] الرسالة التبوكية.
[5] محاضرة وجوب التعاون على البر والتقوى.
[6] رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم.
[7] رواه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في حسن الخلق.
[8] الرسالة التبوكية.
[9] الرسالة التبوكية.
[10] الجامع لأحكام القرآن.